الزحف المقدس

Posted by Ali Reda | Posted in | Posted on 12/22/2014

يقول الكاتب إن حدث ٩ و ١٠ يونيو ربما ينبغى تفسيره، فى المقام الأول، لا بتحركات معينة لأجهزة السلطة، بل بأوضاع سياسية وإيديولوجية متراكمة، شكلت بالفعل، باستخدام تعبئة إيديولوجية متواصلة، أذهان الناس وعواطفهم وتوجهاتهم، بما يفسر تحركهم على هذا النحو الفريد فى تاريخ الهزائم الكبرى للدول. فى مجال المقارنة، فإن أقرب وضع لهزيمة ١٩٦٧ كان عودة نابليون مهزوما من روسيا عام ١٨١٢ . غير أن هزيمة نابليون توجت سنوات طويلة من حروب مستمرة، عوضت مصاعبها انتصارات سابقة لا تحصى حققها القائد الفذ.

نرجع أولا للوضع قبل ثورة 23 يوليو, " بينما كان نظام دستور١٩٢٣ يترنح تحت وطأة العجز السياسى الشامل الذى تبدى فى "حريق القاهرة"، أيا كانت القوى التى صنعته، تصاعدت الدعوة فى "أخبار اليوم" بالذات، الوثيقة الصلة بالسراى وأحزاب الأقلية، تناشد بحرارة ظهور "المستبد العادل"، مخرجا من الأزمة. وحتى إحسان عبد القدوس كتب فى "روز اليوسف" ذات التوجه الليبرالى عن الحاجة إلى "رجل قوى"، وتساءل: هل هو على ماهر؟ وكانت جماعة الإخوان قد فقدت "مستبدها العادل" حسن البنا، بينما أُلصقت تهمة حرق القاهرة بزعيم منظمة "مصر الفتاة" (واسمها آنذاك الحزب الاشتراكى)، وبقى معبود تنظيم "الراية" الشيوعى، الملقب ب"خالد العظيم" (فؤاد مرسى) أسير الحياة السياسية السرية وحدها. أما الملك نفسه فقد انتهت سمعته السياسية، فلم يبق له سوى استبداد عاجز، بغير سمعة "العدل" أو "الوطنية". فكانت صيحة المستبد العادل أملا ضالا للاتجاهات الاستبدادية يبحث عن تجسيد حى.. اتجه أولا إلى على ماهر، ثم محمد نجيب، وأخيرا استقر به المطاف فى القبضة القوية لجمال عبد الناصر."

وحتلاقى نفس الفكرة كمان فى كتابات عبدالناصر نفسه, "فليس صدفة أن كلمة البطل وردت فى "فلسفة الثورة" فى ذلك السياق: "لست أدرى لماذا يخيل إلى دائما أن فى هذه المنطقة التى نعيش فيها دورا هائما على وجهه يبحث عن البطل الذى يقوم به... استقر به المطاف... على حدود بلادنا يشير إلينا". وهو دور طموح للغاية، إذ يهدف "لخلق قوة كبيرة فى هذه المنطقة ترفع من شأن نفسها وتقوم بدور إيجابى فى مستقبل البشر" جميعا".

لقد كان عبد الناصر بالنسبة للشعب تمثيلا، لا لهم، ولكن لأحلامهم فى المستبد العادل، على نحو ما عبر عنه صلاح جاهين فى عمله "أدهم الشرقاوى". فالبطل سيهزم الظالمين الأقوياء، وسيعيد لنا حقوقنا، ويحقق لنا العدل كما نراه. ونحن سندعو له وسنؤيده، وسنفديه. كان عبد الناصر إذن رمزا وأسطورة فى أحلام الفقراء وقد ارتبطت هذه البطولة بالدور الخارجى، والعربى بالذات.  شعبية عبد الناصر التى قد تفسر خروج الجماهير مطالبة ببقائه قد ارتبطت بصورته كبطل للاستقلال الوطنى، وخصوصا صفقة الأسلحة وإعلان تأميم القناة وحرب ١٩٥٦ ، وسبقت بكثير أية إجراءات اجتماعية مهمة حيث أتى معظمها، بدءا بتمصير المصالح الأجنبية، بعد الحرب. فقد أشار عبد الناصر إلى محاولات الغرب منع السلاح عنه ومحاولة جعله مشروطا سياسيا، ورد متحديا عام 1955 بإعلان أن صفقة الأسلحة التشيكية صفقة روسية فى حقيقتها، ثم عرج إلى محاولة دالاس إرسال تهديد للنظام مع مبعوث خاص كرد على صفقة الأسلحة. فكان إعلان الصفقة التمرد الأشد على سلطة الغرب التقليدية فى المنطقة. فكتب المعارض الليبرالى خالد محمد خالد مثلا: "إن هذا الرجل حدث تاريخى ضخم، هو الإطار الحى للمرحلة العظمى فى تطورنا"، إن "الرجل الذى يتحدث الآن باسمهم [:العرب] هو جواز مرورهم إلى المستقبل.. واسمه هوكلمة السربينهم وبين التاريخ... المفهوم التاريخى له أنه الخلاصة المركزة لخمسة آلاف عام بكل تجاربها". وهكذا انتقل خالد من موقف المعارضة لما يشبه التأليه..

ولخص جلال كشك الفكرة كلها فى أن مفتاح فهم ثورة يوليو هو التخلص من دور الكومبارس "كان الاستعمار الغربى لا يرى فى بلاد العرب إلا مصدرا للمواد الخام وسوقا لبضائعه... كومبارس تابع... وحتى النظرية الشيوعية جعلتنا نحن شعوب المستعمرات احتياطى للحركة العمالية فى أوربا... ثورة يوليو أنهت دورالكومبارس العربى.. واستبدلته بدور البطل العربى الذى يحرك التاريخ ويصنعه".

وأخيرا وصل على أمين إلى فكرة وساطة عبد الناصر بين الشعب ونفسه. فهو "يحقق حلما غامضا كان فى صدر كل مصرى وكل عربى... كل واحد شعر أنها ثورته... قامت لتحقق الأمنية التى فى صدره... وجاء جمال عبد الناصر وحددها ونسقها وحولها من أحلام ساذجة إلى سياسة عملية مدروسة" و بنت الشاطئ عام ١٩٦١ وفى نص جامع وشامل فإن عبد الناصر هو فى نفس الوقت: "القائد الذى يرى الشعب كل صفاته ومميزاته مجسدة فيه.... [و]الوالد والمعلم"، وهو "وإن يكن أعظم رجل حكم مصر فى كل تاريخهايقف بين الشعب موقف الابن البار... سعى دائما إلى العثور على كل الذى تنبض به أعماق مصر كلها. إنه ليس قائدنا، وإنما هو مندوبنا لتحقيق أحلامنا.

بس البطل ده فى فكر عبدالناصر شايف إن الشعب مش جاهز عشان يحكم نفسه ولا هو عارف اولوياته ولا مبادؤه وبالتالى كان على هذا البطل إنه يبقى وصى على الشعب ويغرس فيهم القيم والأهداف عشان يبقوا جاهزين لانهم يشيلوا الأمانه من بعده. "ويتمثل منطق الوصاية التربوية بكثير من أبعاده فى قول عبد الناصر عام ١٩٥٤: "أتى إلينا رجال السياسة وقالوا لنا: لقد أديتم الرسالة وعليكم الآن أن تسلموا الأمانة. قال البعض أن علينا أن نسلمها باسم الحرية وباسم الديمقراطية، وقال البعض أن علينا أن نسلمها باسم الإسلام وباسم الدين... [ولكنهم] لم يقيموا فى هذا الوطن عزة ولا كرامة ولا حرية، فآثرنا أن نحتفظ بالأمانة... [لنحميها] من الخداع ونحميها من التضليل... ونحن نعلم أننا سنقاسى فى سبيل تسليمها إلى أهلها الحقيقيين... ونحن نعلم أن هذا الوطن الذى لم تستقر فيه الأفكار [كذا] طوال السنين الماضية قد يتزعزع، وقد لا يفهم الأمور على حقيقتها... لم يفارقنا الإيمان وآثرنا أن نسير فى الشوط إلى نهايته... و[نحن] نبث دائما بين أبناء هذا الوطن العزة والكرامة والحرية. وكنا نشعر بهذا أننا نخلق وطنا جديدا ونخلق جيلا جديدا لا يعتمد على شخص أو أشخاص... ولكنه يعتمد على المبادئ والمثل العليا..."

وحتى مقولته أثناء حادث المنشية واضحة جدا فى تفسير دور ذلك البطل المنتظر: "أيها الأحرار. فليبق كل فى مكانه. دمى فداء لكم... أنا لست جبانا... فليقتلونى. فقد وضعت فيكم الكرامة. فليقتلونى. فقد أنبت فى هذا الوطن الحرية والعزة والكرامة من أجل مصر... إذا مات جمال عبد الناصر فليكن كل منكم جمال عبد الناصر... متمسكا بالمبادئ والمثل العليا... إذا كنت قد نجوت اليوم فبعون الله لأزيدكم حرية ولأزيدكم عزة ولأزيدكم كرامة" .هى بطولة مقترنة بسيادة سيد يلخص معانى العزة والكرامة فى شخصه ويعلمها لشعب يجهلها، أو كان يجهلها حتى جاءه عبد الناصر. وهى مهمة لن تنتهى لأنه سيزيد الشعب حرية وعزة وكرامة بعد نجاته، فيما قال. وفوق ذلك فإنه لا يقبل ثمنا لقتله أقل من أن يجعل من ال ٢٣ مليون مصريا نسخا منه، أو بالأصح أتباعا.

فالمشروع السياسى للضباط الأحرار كما يقرر عبد الناصر هو تربية الشعب على العزة والكرامة والحرية من ناحية، وحماية ذهنه من الأفكار الضارة من ناحية أخرى. والسلطة ليست "حقا" للشعب، بل "أمانة" ائتمن الضباط أنفسهم عليها لحين انتهائهم من تربية الشعب بحيث يصبح أهلا لحملها، وهو ما يتحقق بإنشاء جيل جديد، وبالتالى وطن جديد، يعيش بالمبادئ العليا التى سيلقنها له الضباط. وهكذا أصبح مطلوبا تشكيل شعب جديد، واحد متحد، خلف الضباط، "متحرر" من "البلبلة"، بفعل تحكم السلطة بالمجال السياسى والإيديولوجى. هنا سنجد عبد الناصر يقول بعدما تشكل برلمان ١٩٥٧ الذى شطب أغلبية مرشحيه "إن أهم تبعاتنا" (أى هو ومجلس الأمة) هى "أن نصنع فى هذه البقعة شعبا حيا يقظا مدركا، وأفراد البشر هم المادة الخام".
وضرب الكاتب مثال على التربية دية من الصحافة ,فعبدالناصر أحكم قبضة السلطة على الصحافة، حيث حولها إلى جهاز مهنى بحت، وحظر عليها القيام بأى دور سياسى، وأخضعها لإشراف وزارة "الإرشاد القومى" والمغزى من الإسم واضح جدا. ثم فى كلامه للصحفيين قال أنه يخشى: "أن تصبح هذه الحريات كما كانت قبل ٢٣ يوليو سلعا تباع وتشترى... فقد كان للحرية سوق وكانت للأفكار تجارة... وأنا أريد أن أصون الحرية من هذا العبث، ولا يتفق ومبادئنا أن تصفق لنا الجرائد على صفحاتها لأننا أطلقنا كل الحريات ثم نذهب من وراء الصفحات فنشترى هذه الحرية... ونحن لا نريد أن يشترى الحرية غيرنا ومن يدرى فقد يكون بينهم أعداء للوطن...هذا هو الموضوع الأساسى، المجتمع الذى نريد أن نعيش فيه، المجتمع الذى نريد أن نبنيه. هذا المجتمع هو بالقطع مش مجتمع القاهرة... ولا السهرات بتاع بالليل... بلدنا هى كفر البطيخ، القرية، أى قرية... اللى عاوز يكتب عن بلدنا يروح هناك... لازم نشوف مشاكلنا الحقيقية... أنا أطلب منكم أن تعاونونا فى رسم صورة المجتمع اللى احنا عاوزين نعمله. أنتم كصحافة مجندين لخدمة البلد، مش لخدمة ناس أبدا، واللى مش مؤمن بالمجتمع الاشتراكى الديمقراطى التعاونى... أنا مستعد أدى له معاش ويروح يقعد فى بيته، ولكن اللى بيشتغل لازم يكون مؤمن [به]."نلاقى مقالة تقول لنا بيعوا القطاع العام... أسمى هذا الكلام إيه؟ أسميه انحراف... نناقش كل الأمور ما عدا موضوع الانحراف".

يقول
فتحى غانم، كان: "المفكر الحقيقى الوحيد فى هذا المجتمع والذى يقود الفكر ويؤثر بفكره ويتفاعل مع الشعب هو جمال عبد الناصر... من فوق رءوس المثقفين وإعلانات الصحفيين" اختصرت إيديولوجية "الزحف المقدس" الشعب بمجمله فى سلطة الضباط، وطرحت الاشتراكية هذه السلطة كسلطةالشعب الفقير ضد حكم الطبقة، وقدمت إيديولوجية الوطنية البطولية التحرر الوطنى تحت شعارات شعبوية جوهرها فكرة العزة والكرامة، المختزلة هى ذاتها فى النظام وسياساته الوطنية الشعبوية وهكذا عمل الضباط من خلال التحكم فى وسائل الإنتاج الإيديولوجى أن يعيدوا تشكيل الشعب فى "زحف مقدس".

وكانت النتيجة الطبيعية لما حدث هو المركزية الشديدة للدولة التى تدور فى فلك الزعيم فمثلا جاء مانشيت الأهرام عن الخطاب موحيا للغاية: "جمال عبد الناصر يعلن قيام المجتمع الجديد. فالمجتمعات تقوم بإرادته المنفردة ممثلة فى خطاباته. والمقصود من ذلك بيان أن محورية رئيس الجمهورية فى النظام السياسى قامت على احتكار مطلق للشرعية والسلطة، إلى حد أن أى مؤسسة منتخبة أو معينة كانت تنبثق وتستمر وتتحدد صلاحياتها وتتغير، أو يتم تجاهلها ببساطة، بناء على قراراته التى لا توجد جهة تراجعها أو تخاصمها قضائيا، أو حتى تبدى رأيا مخالفا. وهكذا كانت سلطة الرئيس المطلقة الدعامة الواقعية للصورة بالغة البروز لعبد الناصر فى النظام السياسى.

والنتيجة الأخرى هى أنه لابد أن لا يخرج أحد عن تلك التربية ومن يخرج عن ذلك فهو عدو الشعب وبالتلاى كان تقسيم السكان إلى "شعب" يمثله الضباط، و"أعداء شعب" يقمعهم الضباط باسم الشعب ومن أجله. ولم يكن احتكار مؤسسات "هيئة التحرير" و"الاتحاد القومى" و"الاتحاد الاشتراكى" للنشاط الجماهيرى سوى تطبيق لسياسة خلق هذا الشعب الموحد المعقم مما هو سياسى على إطلاقه. فبمعيار "الاتحاد" كان رقم الآلاف الخمسة فى الاستفتاء الأول كبيرا فى نظر على أمين، فقال أنه تلقى عشرات الخطابات من هؤلاء موقعة بإمضاءاتهم وبرروا فيها قرارهم بأنهم "أرادوا أن يمتحنوا حرية الاستفتاء"، أو "ليخلقوا معارضة" تكون دليلا على ديمقراطية النظام، وبعضهم "اعترف" له "بأن حوادث شخصية هى التى أثرت فى اختيارهم".

وهكذا تئول الصلة بين السلطة و"الشعب" المفتت إلى أفراد إلى نوع خاص من إيديولوجية الحكم بالحق الإلهى. فالشعب يلعب هنا دور مصدر خفى أعلى للسلطة، فينزل الوحى على طليعته من الضباط، ويرعى ويصون ويسدد خطاهم. وهى صلة من نمط سحرى أو لاهوتى لا يمكن فهمها ولا إثباتها، ولا مراقبتها ولا التدخل فيها، لأنها صلة خفية، تتلقى فيها الطليعة بطريقة غامضة أسرار آمال الشعب على حد تعبير الميثاق. كان المتاح إما الإيمان بها، أو الكفر، علما بأن ثمة حد للردة على السلطة. أما وجه الاختلاف عن الحكم بالحق الإلهى فيتمثل فى أن المحكوم هو ذاته مصدر الوحى. وكأن الشعب يتعرف على نفسه ويحقق مصلحته من خلال تلك العلاقة الخاصة بالضباطو من خلالها يتحقق الشعب كشعب؛ فبها يتعرف على نفسه ويحل مشكلاته، ويحقق مجده، وبغيرها يغرق فى الخمول والفساد والظلم. وتحول هذا التصور للأمور على شخص عبد الناصر بمفرده، ليصبح هو التجسيد النهائى للشعب والثورة، التى تتضمن الجيش.

تبلور هذا التوجه عموما، وهذا الملمح الرئيسى الحاكم فى إيديولوجية الضباط، فى شعار: "السياسة هى معرفة مشاكل الجماهير وحلها". وقد أطلق عبد الناصر هذا الشعار عام ١٩٦٤ : "القيادة هى معرفة مشاكل الجماهير". وفى صيغة أخرى: "العمل من أجل الشعب هو .( السياسة" ( ١٩٦٥ دون أن تظهر فى الأفق أية مناقشة سياسية تهدد النظام، اكتفاء بمناقشة كيفية "العمل من أجل الشعب". فالعقائد السياسية ليست مطروحة هنا للنقاش.

يختم الكاتب بتحليل خطاب التنحى فيقول "فى حين أن الاستقالة نقل للسلطة، ويجب دستوريا أن توجه لمجلس الأمة وفقا للمادة ١١١ من دستور ١٩٦٤ المعمول به آنذاك.  غير أن المهم هنا هو أن الرئيس تخطى، للمرة الألف، المؤسسات الدستورية التى شكلها بإرادته المنفردة أصلا، ليقيم محلها تلك العلاقة الخاصة بينه وبين "الشعب"، المفتقر إلى أية مؤسسات مستقلة من أى نوع، وواضعا بذلك كل مؤسسات الدولة بين قوسين فى حالة شلل كامل فى انتظار "كلمة الشعب"، ومحييا بهذا الموقف فى حد ذاته ذلك التراث الذى تناولناه بشأن العلاقة الخاصة بين البطل وشعبه وأخيرا، ولكن ليس آخرا بحال، فإن الزعيم لم يعلن مسئوليته عن "النكسة"، وإنما عن استعداده لتحمل المسئولية عنها.. وهى صياغة، خصوصا فى ضوء ما سبق، تدخل فى باب الشهامة، لا فى باب تحديد المسئوليات. ولأنها شهامة، ولأنه ربما يكون قد أخطأ فقط فى حساب العوامل، وهو ما لم يقله صراحة، ولأن المطروح هو تحمل تبعات الهزيمة، لا المسئولية عن وقوعها، فلا محاسبة ولا مساءلة. ويروى هيكل أن التعديل الوحيد الذى أدخله عبد الناصر على صياغته كانت رفض القول بأنه "على استعداد لتحمل نصيبى من المسئولية"، مصرا على تعبير "المسئولية كاملة". بعد هذا التنحى الخاص منح عبد الناصر نفسه سلطة تعيين خلفه، ومن داخل النظام القائم، فخلع السلطة على زكريا محيى الدين"

وبالتالى كان خروج الناس حتميا فهم كانوا قطيعا مذعورا يرغب فى أن يعود شعبا. فقط بعبد الناصر يمكن أن يعودوا شعبا مرة أخرى.. كان كما سبق القول مرارا "إرادتهم".. فقد كان هو الشعب الفعلى الفاعل، أما هم فليسوا سوى مصدر إلهامه، ثم متفرجيه ومشجعيه. كان الشعب الذى نزل الشوارع هو الشعب كما بنته إيديولوجية "الزحف المقدس"، أفرادا تحولوا إلى ذرات متفرقة، تفتقر لأى قدرة على الفعل الجماعى، وبلا زعماء، لا يملكون سوى أن يسيروا فى "الزحف..." حين تستدعيهم السلطة. هنا لم تستدعهم السلطة، ولكنهم حين أصبحوا فى الشارع، كانوا يتامى حائرين، يبحثون عن حضن الأب الوحيد الذى يعرفونه. والأرجح أنهم حين هتفوا "حنحارب" كانوا يعدون الزعيم بالتضامن معه. ولخص إحسان عبد القدوس الإيديولوجى: "كل خطوة خطاها عبد الناصر خلال الخمسة عشر عاما... كانت تعبر عن إرادة الشعب العربى كله... نحن الذين نتحمل المسئولية.. نحن الشعب... فإذا كان عبد الناصر قد أراد... أن يتنحى فإنه لا يستطيع.. لأنه إرادة الشعب، والشعب لا يستطيع أن يتنحى عن مسئوليته.. إن عبد الناصر سلاحنا.. قوتنا.. إرادتنا. فإذا تنازلنا عن سلاحنا، وقوتنا، وإرادتنا.. فكأننا استسلمنا للعدو... ولن نجعل من النكسة نكستين". فى سبتمبر ١٩٧٠ ، تكرر مشهد الحشود الهائلة، على نطاق أوسع بكثير، حين خرج الناس يودعون عبد الناصر إلى مثواه الأخير، فى مشاهد حزن مروعة، عاجزين عن تصور أن تعيش مصر دونه. وفى تلك المناسبة قالت لطيفة الزيات: "لا يحق لفرد أيا كان أن ييتم شعبا"... ولكن لكى ييتم فرد شعبا، يجب أولا أن يفرض نفسه عليه كأب؛ كان عبد الناصر أبا بطريركيا قويا وباطشا ومانحا أيضا... وكان فوق ذلك بطلا للعدالة والوطنية والثورة، فأصبح بهذا كله أبا ونبيا معا، أو، كما قيل، مخزنا لطاقات "شعبه" وحامل إرادته ومحتكرها.. تلك كانت أسس ذلك اليتم.

أخيرا أعيب على الكاتب ثلاث نقاط
أولا أنه لم يفسر انتشار ظاهرة الزحف المقدس للشعوب العربية المجاورة حتى انى اقتبس من ادوارد سعيد مثلا قوله فى كتابه السلطة والسياسة والثقافة
:
“Not one of our political spokespeople—the same is true of the Arabs since Abdel Nasser’s time—ever speaks with self-respect and dignity of what we are, what we want, what we have done, and where we want to go. In the 1956 Suez War, the French colonial war against Algeria, the Israeli wars of occupation and dispossession, and the campaign against Iraq, a war whose stated purpose was to topple a specific regime but whose real goal was the devastation of the most powerful Arab country
. And just as the French, British, Israeli, and American campaign against Gamal Abdel Nasser was designed to bring down a force that openly stated as its ambition the unification of the Arabs into a very powerful independent political force.” 

ثانيا انقلاب الكثير من معارضيه والذين قضوا فترة فى السجون لمؤيدين له بعد موته مثل الأبنودى وأحمد فؤاد نجم وغيرهم.
ثالثا وهو حل الاعتراضين السابقين , ان الكاتب ركز على صناعة الايديولجية الناصرية كعملية غسيل مخ جماعى وأهمل ان الشعوب المصرية والعربية والتى لم تتعرض لتلك التربية كلها كانت تتتظر البطل, ليس فى مصر فقط بل فى العالم العربى كله بل ومقارنة فترة عبدالناصر بما بعدها أكدت صورته كبطل.
أنهى كلامى برسم كاريكاتيرى لناجى العلى الفلسطينى الشهير

Comments (0)

Post a Comment